.:: المفلس هو الخاسر يوم القيامة ::.

===================================

تاريخ الخطبة / 2008-04-04
الخطبة الأولى :
 الحمد لله جعل الدنيا دار عمل وابتلاء، وجعل الآخرة دار فضل وجزاء، فإما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم لمن أعرض عن ذكر الله واتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وتركنا على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلاة الله وسلامه عليك سيدي يارسول الله وعلى آلك الطاهرين وصحابتك الغر المحجلين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم واستن سنتهم إلى يوم الدين.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } (فصلت:46).
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس؛
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرةt قال: قال رسول الله r:" أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته ، قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه . ثم طرح في النار".
إنه لهدي نبوي شريف يوجه الأمة أفراداً وجماعات للعمل بما يسعدها في الدنيا والآخرة، إذ مقياس سعادة الفرد والأمة لا يرتكز على ما يحرزه الفرد أو تحوزه الأمة من متاع الدنيا بكل ما اشتمل عليه هذا المتاع من المال والأولاد والزينة والشهوات وسطوة القوة والسلطان، بل السعادة الحقيقية هي العمل بالصالحات في الدنيا للفوز والنجاة في الآخرة، وهناك يظهر بجلاء الخاسر والرابح،؛ فالخاسر مَنْ قادته تصرفاته في الدنيا إلى خسران أعماله الخيرة في الآخرة، إذ الوفاء في الآخرة يكون من حسناته فإن نقصت عن الوفاء بما عليه من ديون للعباد اقترفها في الدنيا بأكل مالهم أو قذف أعراضهم فإنه يؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه ثم يكون مصيره والعياذ بالله إلى جهنم وبئس المصير.
وهذا هو الإفلاس الحقيقي في الدنيا والآخرة، نسأل الله لنا ولكم العافية والنجاة من الخسران والفوز برضوان الله تعالى، إنه هو الغفور الرحيم.
أيها المسلمون يا إخوة الإيمان في كل مكان..
إن هذا البيان الكريم من الرسول r لحال المفلس من أمته ليوجب على كل واحد منا أن يكون على بينة من أمره في الاستفادة من أعمال الخير التي تشتمل على الطاعات والعبادات وجميع أبواب العمل الصالح والأخلاق الحسنة الكريمة في التعامل مع إخوانه وجيرانه وأبناء مجتمعه وأمته، وأن يبتعد عن كل ما من شأنه أن يذهب بثواب هذه الأعمال أو ينقص أجرها يوم العرض والحساب في اليوم الآخر الذي لا تستوفى الحقوق فيه بالدرهم أو الدينار، وإنما من حسنات الإنسان فإن لم تف حسناته بما عليه من تبعات للعباد أخذ من سيئاتهم وطرحت على سيئاته لتقوده إلى النهاية الخاسرة والإفلاس المحقق الذي يؤدي به إلى النار، فهل يعمل ذو عقل لمثل هذه النهاية؟! نسأل الله السلامة والأمن والإيمان { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: 88-89).
وقد بين الله تعالى أن الإنسان الذي يخسر الآخرة، لو كان يملك الدنيا بأسرها لافتدى بها ذلك الموقف، وأنى له ذلك وقد جاءته البينات في الدنيا فأعرض عنها واتبع النفس هواها{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(المائدة:36).
أيها المسلمون يا إخوة الإيمان في كل مكان..
إن الناظر إلى المجتمعات الإسلامية اليوم يرى خللاً واضحاً في سلوكها، وتراجعاً في أخلاقها، رغم كثرة المصلين والمزكين والحجاج والصائمين، مع أن التزام هذه الأركان والتقيد بأخلاقها يقود – كما بين الله تعالى في الصلاة – إلى البعد عن الفحشاء والمنكر فالله تعالى يقول: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}(العنكبوت: 45)
كما أن الصيام يقود إلى التقوى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183).
والزكاة طهرة لصاحبها وتزكية للمال والله يقول{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:103).
فلماذا تفشت في مجتمعاتنا الشتائم والرذائل وجرائم القتل والقذف وسفك الدماء بغير حق، وأكل الأموال بالباطل وبطرق غير مشروعة؟!
ولعل الجواب على ذلك يكمن في عدم الالتزام بأخلاقيات العبادات التي نؤديها، والخروج عن الأحكام الشرعية التي تضبط السلوك وتحث على مكارم الأخلاق وغياب السلطان الذي يقيم الحدود ويرعى تطبيق شرع الله.
أيها المسلمون يا إخوة الإيمان في كل مكان..
إن الرابح يوم القيامة كما أخبر نبينا وشفيعنا r هو الذي يجنب نفسه الإفلاس من حسناته في ذاك اليوم المشهود فيأتي بصلاة وصيام وزكاة وطاعات يحافظ على ثوابها وحسناتها فلا يشتم أحداً ولا يقذف مسلماً، ولا يأكل مال الناس بالباطل ولا يسفك دم أخيه المسلم أو يعين على ذلك ولو بكلمة، ولا يستشرف الفتن أو يذكيها بل يتخلق بأخلاق الإسلام ويسترشد بهدي المصطفى u ،كي لا يكون من المفلسين يوم القيامة بخسران حسناته، فتطرح عليه سيئات الآخرين؛ فيلقى في النار.
جعلنا الله وإياكم من الفائزين برضوانه ومن الرابحين بفضله وكرمه وسعة رحمته الفوز بالجنة والنجاة من النار إنه هو البر الرحيم ذو الفضل والإحسان والجلال والإكرام.
جاء في الحديث الشريف عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r :" كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" (أخرجه البخاري).
فيا فوج المستغفرين استغفروا الله وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة
 
 الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، يشفع للخلائق بالحساب ولأمته بالنجاة من النار، إذ لا يخلد فيها من كان في قلبه ذرة من الإيمان.
فصلاة الله وسلامه على الرحمة المهداة من الحق للخلق وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
 وبعد أيها المسلمون ...
إن مقياس الربح والخسارة في الأمة مرتبط بمدى التزامها وتطبيقها لأحكام الإسلام، فإذا ابتعدت الأمة عن هذه الأحكام أصابها الضعف والهوان في الدنيا وتأخرت عن مكانتها التي شرفها الله بها{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}(آل عمران:110)، فكيف يرجى التقدم للأمة وقد تراجع المعروف وانتشر المنكر بكل أنواعه وأصنافه ووجد في الأمة من يجاهر بذلك، واستهان الناس بالقيم والأخلاق، وشاع انتهاك الحرمات والأعراض وسفك الدماء ونهب الأموال، ألا يقود هذا الحال إلى الخسارة في الدنيا والآخرة؟! فهل من مذكر وهل من معتبر { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر:2).
أيها المسلمون يا أبناء ديار الإسراء والمعراج..
في الوقت الذي ننشغل فيه عن تحقيق أهدافنا ووحدتنا وتتراجع فيه قيمنا وأخلاقنا يتقدم الاحتلال والعدوان في تنفيذ مخططاته لابتلاع الأرض بزيادة الاستيطان والمستوطنات ومحاصرة المواطنين في معازل وتجمعات سكانية من خلال شبكات الأنفاق والطرق الالتفافية التي مزقت الأرض الفلسطينية، بعد أن حاصرها جدار الفصل العنصري الذي حرم المواطن الفلسطيني من التواصل مع أهله وأرضه وأبناء مدينته أو قريته، وكان للقدس النصيب الأكبر من هذه الإجراءات التعسفية الاحتلالية الهادفة إلى طمس الهوية العربية والإسلامية لهذه المدينة المقدسة التي تمثل قلب فلسطين بما فيها من قداسة ومقدسات يتربع على سدتها المسجد الأقصى المبارك .
وما زال الحصار والإغلاق مفروضاً على القطاع الصامد الصابر ، كما تنال يد العدوان الأبرياء من أبناء شعبنا قتلاً وملاحقة واعتقالاً ولم تسلم الجمعيات الخيرية التي ترعى الأيتام من أبناء شعبنا من الملاحقة والإغلاق كما جرى في بيت الأيتام واليتيمات في مدينة خليل الرحمن.
فأين هي مؤسسات حقوق الإنسان ورعاية الطفولة والمعاهدات والمواثيق الدولية التي تحمي المواطنين المدنيين الواقعين تحت الاحتلال؟!.
وما جدوى الحديث عن السلام في زحمة جميع هذه الممارسات التعسفية الاحتلالية ؟!.
أيها المسلمون يا أبناء ديار الإسراء والمعراج..
إن المزيد من الصبر والثبات والرباط مع المحافظة على الطاعات والابتعاد عن مواطن الفتن والمعاصي والعمل على توحيد الصف وجمع الكلمة والاعتصام بأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه لكفيل بعون الله تعالى بتقريب الفرج وزوال العسر والغمة .
فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا.
ولله در القائل :
ولرب نازلة يضيق بها الفتى                            ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها                           فرجت وكان يظنها لا تفرج
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس